17 مايو 2022

نحن أبناء ذاكرتنا أحياناً.. وأندادها دائماً (حوار صحفي)

حوار مع: إسـلام أنـور
مجلة عالم الكتاب / العدد 66 - مارس 2022

____

 _الموت والخذلان والوحدة والألم لهم حضور قوي في كتابتك إلى أي مدى تمنحك الكتابة مساحة للتحرر من تلك الهواجس والأوجاع؟


* يتعين على الكاتب أن يأخذ الأشياء الأكثر شيوعًا في حياته وفي الحياة حوله - من المشاعر، الصفات، الأسماء، الضمائر، الأفعال، الأحوال - ليشكلهم معًا ككرة ويجعلها ترتد إليه في مخيلته. ثم يقوم بتحويل تلك المعطيات بطريقة معينة ليجعل الناس يدخلون في المزاج العاطفي لما يكتب. وبطريقة أخرى، في مزاج حي، يحمل انعكاسا بمخزون وعيه الخاص الذي شكلته الحياة.

وكما ذكرت من قبل، فأعتقد أن الكتابة لا تحرر أحدًا من هواجسه أو تشفي ندوبه، وهي ليست عملية علاجية بالضرورة. بل عملية تدوير، يمكن للإنسان إعادة تدوير الأشياء وتصريفها خلال الكتابة بحيث يتمكن من التعايش معها أو تخطيها. بما في ذلك هواجسه واهتماماته وقضاياه وآلامه.



_عنوان ديوانك "أجمل الوحوش التي عضت روحي" يحمل قدر كبير من المفارقة والسخرية من الجمال والتوحش كيف ترى هذا التناقض؟


* عنوان الديوان جاء حاملًا للمفارقة التي يحملها الديوان في متنه، المفارقة بين الألم والعذوبة، الانتماء والتملص، الحب والتأذي، الرحمة والقسوة، ومفارقة التوحش والضرر الذي يتخفى في صورة الجمال، ومفارقة الجمال الذي يتوحش بينما نراه على صورته الأولى التي أحببناها ويلزمنا زمن للتصديق أنه بذلك التوحش. 



_سؤال الزمن والذاكرة لهما حضور بارز في كتابتك كيف تتأملي التغيرات التي يحدثها الزمن في حياتنا وبرأيك إلى أي مدى نحن أبناء ذاكرتنا؟


* نحن أبناء ذاكرتنا أحيانًا، وأندادها دائمًا. الذاكرة ظل للإنسان يقف ندًا له، أحيانًا يألفه ويحبه، وأحيانًا يصارعه. والكتابة هي صناعة وإعادة تدوير للذكريات والذاكرة، الكاتب مصنع ذكريات حي متجدد. يحاول منح أعماله عمرًا، ويبقى حيًا وفاعلًا في ذكرياته.

عندما أكتب تصبح سلطتي على الزمن أكبر من العالم. وأرى كيف أن أغلب الناس تصارع الوقت وتنتظر اللحظة، لكننى أعيشها وأكتب. لأننى لا أريد أن أنتظر اللحظة؛ بل أريد أن أنغمس فيها وأحتفظ بها لأستردها مجددًا، وأصنعها إن لزم الأمر. اللحظات الفارقة فى الحياة لا تنتظرنا، إنما تسرع بالرحيل، ودون عودة أحيانًا. فيجب أن تكون هناك دائمًا خزانة استرداد لأنفسنا وزمننا وذاكرتنا، والكتابة خزانة ونافذة، جرح موارب فى اللغة حين تكون المخارج مغلقة.



_تفتتحي مجموعتك القصصية "فسحة بويكا" بجملة تطرح العديد من الأسئلة عن ماهية الكتابة "هذه النصوص مثل كل شئ آخر، صالحة فقط حتى لحظة الانتهاء من كتابتها" ماذا تعني لك الكتابة؟


* الكتابة تشبه تمامًا المطبخ، هي مطبخ دائم للتجربة والشخصية والجدوى. لذلك تتأثر وتتغير ب/مع كل منهم، فلا يمكن الحسم بصلاحية أفكار الكاتب في مرحلة ما للأبد. كل مرحلة لاحقة ستضيف أو تحذف مما سبقها من مراحل بحسب ما تكتسبه شخصيته أو تتخلى عنه من أشياء. ونفس الشيء بالقياس على وعيه وإدراكه ورؤيته للعالم ولغته ونضجه. لذلك، النصوص مثل أي شئ آخر في حياة الإنسان وشخصه، صالحة كمعيار حتى لحظة الانتهاء منها فقط. والكتابة تعني لي حياة موازية أخلق بداخلها شتى أنواع الحيوات التي لم تسعها الحياة العادية. كذلك، الكتابة كانت وسيلتي الوحيدة المتاحة لترميم ما أراه قبيحًا وفاسدًا وقاسيًا في العالم، وجعله أكثر إنسانية وعدلًا في صورة ما ولو مجازية، أو إسقاطية، أو فانتازية. الكاتب لا ينبغي أن يجعجع بلا طحن، أو يناضل بالكليشيهات الخرساء نظريًا كالآخرين. بل أن يغرس انحيازاته وأفكاره وقيمه بصورة عرضية ذكية وحساسة في أدبه. أن يغير ولو عقل واحد يدخل إليه من خلال المخيلة. أن يزرع أفكاره ورؤيته للعالم لكي تعيش أطول منه، وتظل تنبت للأبد. تلك هي المقاومة الحقيقية.



_الرسم والموسيقى والتقنيات السينمائية من مونتاج وفلاش باك لهم حضور بارز أيضا في قصصك كيف ترى العلاقة بين تلك الفنون المتنوعة؟


* أرى الفنون جميعا مجموعة من ألوان وحواس الحياة، لا يمكن الاعتماد على لون واحد أو حاسة واحدة دون الآخرين، لتكتمل صورة ما. لذلك فالعلاقة بينهم متداخلة وقائمة ومستمرة. وشخصيًا أنحاز لكل أنواع الفنون، وكنت أتمنى لو أتقنها جميعها أيضًا، فلطالما تمنيت لو أنني أتمتع بصوت مناسب للغناء، أو أجيد عزف آلات مختلفة، أو أملك مهارات سينمائية. لدي نهم لتذوق كافة الفنون، وشغف لممارستها كذلك.


_لحظة البداية تحمل غالبا ذكريات ومفارقات عديدة كيف بدأت رحلتك مع الكتابة وكيف تتعاملي مع تعليقات القراء والنقاد على كتابتك؟


* اتجهت للقراءة أولًا في سن صغيرة بعد شغفي بحكايات النوم من أمي، ثم تطوره مع قصص ومجلات الأطفال. وبدأت محاولات الكتابة بعدها، كتابة عفوية طفولية بالطبع، قصص أو خطابات، بل وكنت أهوى في زمن ما تأليف حكايات عن أصدقاء خياليين يزورون أحلامي من عالم آخر وأسردها على عائلتي وأصدقائي حتى أول المرحلة الابتدائية، ثم اتجهت للمشاركة في المجلات المدرسية، حتى أنني صممت مجلة خاصة في طفولتي بالمنزل، وأجندة بهيئة كتاب أقاصيص. بالطبع تطور الأمر وكان يتخذ طابعًا أكثر جدية ونضجًا ووعيًا على مر السنين وهكذا.

أعتبر التفاعل مهم كمعيار لتذوق المادة، وأتعامل معه ومع النقد بشكل محايد وتلقائي، فالنقد الصحيح قد يلفت انتباهي لما قد أغفل عنه أو ينبغي العمل عليه في كتابتي. والمديح قد يطمأنني ويشجعني عاطفيًا لكنني أمتن كثيرًا دون أن أتوقف عنده.



_تكتبين القصة والشعر وتعملين بمجال الترجمة من خلال تجربتك كيف تري خصوصية كل وسيط منهم وأيهم أقرب إلى قلبك؟


* أنا منحازة للقصة القصيرة تمامًا وأفضلها على الرواية، أعتبرها بمثابة بيت لي أتنقل وأعود إليه بالضرورة. لا يمكنني تخيل الحياة دون وجود القصص أو نسجها، وكذلك، ليس هناك معاناة أكبر من أن تحمل قصة غير مروية بداخلك. أما الشعر، فهو يستحوذ على كل شيء، روحي ورؤيتي للعالم وخيالي وقراءاتي، الشعر يسيطر حتى على إلهامي ومخيلتي عند كتابة النثر، ولغتي السردية. أعتقد أن الشعر هو أقوى لغة يملكها العالم.

بينما بدأت الترجمة من الرغبة في مشاركة ما أحببته أو ما تمنيت كتابته بنفسي ولم تتسن لي الفرصة. وكي يتحرر النص من سجن لغة ونطاق واحد ولا يندثر دون أن يصل إلى ما يستحق من الانتشار. ثم أردت أن أتقن الترجمة، لا أن أستخدمها للاطلاع والمشاركة فقط، وجدتها مغذّية لمخيلتي ووعيي، وضرورية للحفاظ على طاقة التواصل المتبادلة عبر الكون ولياقة الحياة. 



_سؤال اللغة كذلك من الأسئلة البارزة التي تواجه معظم الكتاب كيف تتعاملي مع هذا السؤال؟


* أعتقد أن الكتابة ذاتها إجابة لسؤال اللغة. اللغة تشبه الإنسان، ما نتوقعه من الإنسان نتوقعه منها. لذلك فهي لا تملك ملامح وأحوال ثابتة حول العالم. ولا يمكننا القول بأن اللغة وحدها هي الخلاص، بسبب ذلك التباين، لكن اللغة هي المنفذ الذي يجد عبره الإنسان متنفسًا للخروج من المآزق الحقيقية في الوجود. اللغة ترضي حاجة الإنسان للتواصل والهروب في الوقت ذاته.



_في كتابتك هناك إحالة للعديد من الكتاب والكاتبات مثل كافكا ونازك الملائكة من أكثر المبدعين الذين تأثرت بهم؟


* في بعض الأحيان أحب الإشارة لبعض الكتاب في بعض المواضع، أو أستعين أحيانًا ببعض المقتبسات التي تتداخل مع حالة النص. في مجموعتي القصصية الثالثة أيضًا أعتمد على مداخل شعرية وتقاطعات أدبية كما أحضرت بعض الكتاب بشخوصهم إلى أحداث بعض القصص.

أحب من الكتاب عدد كبير، وأتأثر ببعضهم، في السرد يسعفني أن أتذكر منهم: ميلان كونديرا وربيع جابر ونجيب محفوظ وخوان مياس ودوستويفسكى وعبد الله ناصر وجيم هاريسون وكالفينو وأصلان ويحيى الطاهر وماريو بينيديتي وأحمد عبد اللطيف وأفونسو كروش وساراماجو ومنصورة عز الدين ومحمد المخزنجي وحجي جابر وجبور دويهي وستيفان زفايج. وفي الوقت الحالي هناك كتاب معاصرون يؤرخون لمشروعهم الأدبي بخطى فريدة وقيّمة، ويعملون على صقل أعمالهم باستمرار، وبصورة فنية دون التفات لمعطيات السوق التجارية أو اهتمام بالمبيعات أو اثارة الضجيج وتلك السباقات اللاهثة، وهم من أفضّل القراءة لهم وأثق بمتابعتهم أكثر، منهم ضياء جبيلي وعبد الله ناصر وأحمد الفخراني وعادل عصمت.



_الحواس كذلك حاضرة بقوة في كتابتك إلى أي مدى تتعاملي مع الكتابة ككائن حي؟


* الكتابة بالفعل إحدى الحواس المنفردة، حاسة قوية مستقلة، يتمتع بها البعض إضافة لحواس الإنسان الطبيعية. وهي أيضًا ترجمة لكل الحواس الأخرى. في أصل الأشياء وقبل أن يبدأ العالم، كان الصمت، ثم كانت الحواس، لمساعدة الكائنات على الشعور والتعبير والتواصل، وبمرور الوقت صار من الممكن للإنسان أن يتواصل أيضًا بالكتابة، وأن يشعر ويعبر ويتصل بالآخرين. وتصبح عملية الكتابة وما يقابلها من القراءة، هي الأخرى صوت يمكن سماعه، ورائحة يمكن التقاطها، وتفاصيل يلمسها العقل ويترجمها الوعي، ورؤية يمكن تخيلها وعرضها.

وهي تتيح لي كذلك أنسنة الأشياء من خلالها، لأن أنسنة الأشياء والجمادات، أو إحياء الأشياء غير الحية، هي إحدى الرؤى التي تسيطر على رؤيتي للعالم وللأشياء من حولي. لا أستطيع التواصل مع أشياء كثيرة أو تكوين فكرتي عنها دون اعتبارها حية.


 _لماذا اخترت الشاعرة والروائية الأمريكية سيلفيا بلاث لتكون مدخل وعنوان لمجموعتك القصصية الأخيرة؟


* نحن قد نكتب عما يثير انتباه مخيلتنا ويحفزها، أو عمن تجذبنا ذواتهم في الحياة، وهنا تصبح بعض التجارب مثيرة للتأمل وملهمة للمخيلة. تشغلني سيلفيا إنسانيًا بما تحمل حياتها من حالة فريدة إنسانياً وشخصية غنية، أكثر منها كشاعرة في منتجها الأدبي.. حيث قد يتعجب البعض من مفارقة تناولي لها إنسانيا وفي الكتابة، بينما أراها أدبياً شاعرة جيدة ولكن ليست استثنائية أو في قائمة مفضلاتي، لكنها إنسانة تحمل إرث شخصية ملهمة وحياة مثيرة للفضول والتقدير كذلك.

تخيل فقط مشهداً واحداً من حياتها المزدحمة بالتوترات المختلفة، مشهدها الأخير، امرأة استيقظت ذات يوم وقررت الانتحار ولكن قبل ذلك فكرت في ضرورة إعداد الحليب لأطفالها النائمين لحرصها على أن يجدوه بانتظارهم عند استيقاظهم ربما كي لا يفزعهم غيابها عن صباحهم دون أن يبدو طبيعياً.. كانت تلك امرأة تحمل روح شاعرة حقيقية.