14 نوفمبر 2021

 بعد عدد قليل من الصفحات، أتوقف عند عبارة معينة من الرواية. تعجبني للمرة الثانية أو الثالثة، هي عدد من مرات القراءات الناقصة للحداثة، لكنه اعجاباً منقوصاً هذه المرة، هشاً، مشبوهاً، وعرضة للانهيار.

انها تعجبني كشيء أعرفه جيداً رأيته سابقاً وأحببته وتعودت عليه، لكن شيئاً آخر جديداً يحاول انتحال مكانه الآن ولا يشبه ما أعرفه ولن يشبهه أبداً. بدت كمحاولاتنا الرديئة للتلاحم مع الغرباء عنا التي نعود بعدها لأصدقائنا بكل عبلهم أو رفقتنا الحقيقية.

منذ اللحظة الأولى، مع العبارة الأولى، وعلى طول خط القراءة، ظل شعوراً غامضاً بعدم الراحة يتسلل إليّ، ومع وصولي إلى العبارة المثيرة للديجافو، وضعت يدي على السبب الذي بات واضحاً أنه يتعلق بمدى رداءة وسوء مستوى الترجمة، إذ أنني تذكرت على الفور العبارة، كما يتذكر المرء حبيب سابق له في لمح البصر مهما طال الغياب والبعد وتغيرت الحال، وقلت لنفسي أن هذه العبارة كانت أجمل في وقت أسبق وفي موضع آخر. هنا حيث يشعر المرء بحنين لحبيب يشبهه وقريب من روحه وهو يحاول تجاذب حديث البدايات وقفزات شغفها أمام آخر لطيف يجذبه ربما لكنه غريب ولا يشبهه بالمرة. فيعود لتحسس موضع حبيبه الحقيقي بسير دقيق. هكذا كنت أعود لتلمس طريق ترجمتي المفضلة هرباً من سطحية تلك الترجمة.

لم يكن اسم المترجم الجيد غائباً عني، لكن لأسباب تتعلق بكسل أو قصور في البحث، وعدم جماهيرية الترجمة الجيدة نفسها، انزلقت وتورطت في تصفح الترجمة الرديئة، الأكثر حداثة، في إصدار أكاديمي. والكاتب هنا هو كافكا.

وتأتي العبارة ،بحسب المترجم الغريب، على هذا النحو: «مناسبة إلى يأس صغير»، هكذا خطر في باله، «لو كنت أقف هنا بالمصادفة وليس عمداً.» ثم (..)البقية. بينما تظهر في نص المترجم الأقرب للنص بهذه الصورة الرشيقة والجميلة: «لولا وقوفي هنا مصادفة، وليس عن عمد، لكان ذلك داعياً لشيء من اليأس. لكنك بوجودك اليائس في طريقي، على الأقل، كنت خير معين لي في خطوات يأسي.».

ما أجمل هذا التعبير عن اليأس! فحتى اليأس يمكن أن يكون جميلاً في تجريده إذا تمت ترجمته ترجمة صحيحة وبحساسية للّغة.

قبل سنوات، في القراءة الأولى للرواية، كنت قد توقفت، عند هذه العبارة بترجمتها الأجمل. ولعلي قذفت بالعبارة في مقطع على مدونتي ب"تمبلر"، كما فعلت هذه المرة أيضاً. أفكر بأنني إذا كنت قد تعرضت لهذه العبارة في القراءة الأولى بالترجمة الرديئة لم أكن لأتوقف عندها أبداً ولم تكن لتثير اعجابي، وبالتالي لم أكن لأتوقف في هذه المرة ولا في المرات السابقة عن فعل القراءة للعمل الغريب من بابه، على اعتبار، وهي محض نظرية شخصية، أن التوقف أمام العبارة المثيرة للإعجاب، كما كل الأشياء الجميلة، يترتب عليه بالضرورة، فيما يشبه المتلازمة، التوقف عندها، وعدم القدرة على تجاوزها ومواصلة الطريق. وربما هذا ما أعادني بإخلاص عاطفي لترجمتي المفضلة.

أقلب السكر في فنجان الشاي ببطء وأنا أواصل هذا التفكير من شرفة مغمورة بالشمس، بينما أكاد أخاطب الله من داخل ذهني: تصور أن كل تلك الأفكار انهمرت -سريعاً في مرورها بعكس كتابتها- على ذهني خلال قراءة ترجمة رديئة، التقطتها بعين مترجمة ثانياً، ولكن أولاً بعين إنسان مجرد وضائع في القراءة.. هذا ما تفعله ترجمة رديئة بعبارة جيدة وحساسة. فتخيل ما يفعله بنا العالم.. وهو يترجم أرواح أصيلة بترجمات رديئة يومياً، هنا وهناك. 

نحن البشر جرحى الوجود، مبتورين من سياقاتنا الصحيحة، مفقودين في الترجمة، بين الأماكن غير المناسبة والأوقات الخاطئة وحفنة من نفايات الأخطاء غير المقصودة ومحاطين بالكثير من الأشخاص الخطأ في النسخة الخاطئة من الحياة.

إلهي اجعلنا أي شيء يسهل فضّه كستار مسرح حي.. ولا تجعلنا نصوص رديئة الترجمة.