لماذا للناس أحزان؟ إنني كمن يقول عن الحزن بخوف: لا أعرف ما الذي يقف وراءه، رغم أنني أعرفه كما خلق. لماذا هم آخرون؟ .. كيف يعيش كل هؤلاء البشر من حولي، خارجي، وأبدو أنا الآخر لهم؟ يردد قلبي هذه اللازمة كثيرًا، دون وعي للأسباب، لماذا الناس هم آخرون، لا ينتمون لذواتنا، يشعرون ما نشعر به ويجرحهم ما يجرحنا، هنا أتوقف قليلًا..حيث اخترت بلا وعي أن أصنع الجسر بيني وبين الآخرين مما يجرحنا، يجرحني الكثير من هذا الكون.. يجرحني الغلاف الجوي للمكان مهجور الذكرى التي لا تستعاد، كما يجرحني هذا الادراك الذي يولد ويكبر دون أسباب واضحة، الزحام المليء بالأذى أكثر من الدفء، الدمار، المشارط، المرايا الرديئة، القلاع التي لم تكن يومًا حصينة بما فيه الكفاية حولنا. الطريق الذي يخذلني في الوصول إلى المكان الذي أنشده، الأشياء المترددة بين رغبتها في أن تكون عند حسن ظني وبين ما هي عليه حقًا، تلك الأسرار الصغيرة للآخرين، التي تقتحم عالمي دون أن أبذل جهداً ولا أعرف لماذا؟ .. الرقة التي تكاثرت بشدة في اللقاء الأول وتكسرت بعد ذلك تدريجيًا، العذابات المعلقة على وجوه الناس حتى القساة منهم، والذين يمشون متظاهرين أن شيئًا في الحياة يفتقد الجدة لكي يكون محط اهتمامهم لأنهم لم يعرفوا الألم شخصيًا بعد، ضوء روحي الصافي الذي ما عاد يلمع لأحد، والحنين الذي يتضاءل كلما ماتت المسافة بين الصوت والإحساس وكذبت الرؤية الأليفة القديمة عنه، نسيانهم للتلويحة التي كادت أن تنقذنا لولا أنها ماتت في أيديهم التي انشغلت بالتصفيق لجهة أخرى من العالم لا تضمنا.
كل الخيالات التي قُتلت في طفولتها بينما تمرح في الداخل أمام الخيبات المبتذلة، والأحلام التي فقدناها للأبد خلال رحلتنا في هذا المكان كأنما ندوس عليها نحو الواقع، نلوّح لها بحسرة ما انقضى أوانه ولن نصيره ولن يعود. حواسي الحادة التي سأثق بها مرة أخرى رغمًا عني أمام التخمين الطيب، يأسي الذي يشد نفسه بعناد الى أملٍ ما، وصدري الذي يضمر خوفا كابوسيا لا يقظة له. زرقة البحر الواهنة المرهقة، لون حزني.. لا يشبه حزني أي درجة من خضرة قلبي، حزني أزرق.
الخسارات التي تعرف كيف تتسلل من كونها خسارات لكونها حادث سير طليق بلا حكم، القلب الذي يحمل عاطفة لا تشبه نمط الحياة العالقة بها. وكل اللذين كانوا يومًا محاولة جادة لرتق جراحات قلبنا لكنهم حتى لم يتركوه كما وجدوه، كل الصباحات التي لم تعد تأتي بمن كانوا مصدرًا للتصالح مع سيئات الحياة، النهار الذي يعرض نفسه علينا عبر تشكيلة من الاقنعة، الغرباء الذين يحملون أحاديثنا معهم كجثة لا تشبهنا، ولا يعرفون عن صمتنا ما يكفي، العالم الذي يدعونا بين الوقت والأخر أن نتخلى عن الفضائل، فضائلنا، وأن نستبدلها بالبديهيات فقط.. السقوط في الاكتئاب مرغمًا أمام قلبك، كالمجروح من عائلته الذي لا يشفى دمه، أمنياتنا التي تضاءلت حتى صارت لا تتجاوز المشي باطمئنان في شارع ما من الدولة التي تمرر سوطًا علينا كل يوم، كل الأشياء التي كانت لنا يوما وهجرتنا واحدًا تلو الآخر، تلك البضاعة التالفة التي تعج بها أيامنا ولا نستطيع إعادتها واسترداد ما مضى، والثقل الذي يتطلبه القيام بهذا كله.
لماذا أفيق اليوم على وجه التحديد على رؤية كل تلك الديفوهات في وجه يوم طويل جارٍ؟!
لو أنني لا أفكر بمخاوفي كما تشعر القطة بصغارها وتحملهم بين أسنانها لكل مكان، لو أنني لم أسلم نفسي بطلاقة لكل مشاعري التي لم أعرفها إلا دهشة وفجأة، لو أنني لست كعنقاء أصيلة على الرغم من كل الأضرار الجسيمة الا انها تنجو وتتعرض مجددًا للحياة، لو أنني لست مكابرة لعينة إلى هذا الحد، حتى أنني إذا ما أظهرت ضعفًا أو شكوت جرحًا أمام أحدهم أبدو كما لو أعاقبه على السماح بضعفي وأتجنبه، حتى أعدم قدرتي على البوح.. خوفًا من الحديث أمام الأشخاص الخطأ. وتعرية الروح لمن يهتك حرماتها بنزق.
تلك المكابرة السخيفة وما تحمله من ألم خفي، أتذكر.. ذات يوم عاقبني أخي المتزمت على خطأ ما، وربط قدميّ الصغيرتين بقسوة وحماقة مفرطة، قيّدني هكذا لساعات طويلة خلال النهار بينما أجلس على الأريكة في غياب أبي وأمي. بقي يحدق فيّ إلى وقت متأخر منتظرًا ان أبكي، أصرخ، أشتم، أطلب النجدة، أهدد، أحتج، لكنني لم أقل شيئاً، كنت أناوب هدهدة قدمي المحتقنة في الهواء بجهد لا نظير له وأنا أنظر إليه بصمت ومكابرة تحمل بعضًا من استخفاف المدرك. استخفاف لا يخلو من الاحتقار، حينها شعرت أن أخي ضعيفًا، فجًا، وقاسيًا، واحتقرت هذا به. حتى عاد أبي باكرًا لاكتشاف طفلة ضئيلة الحجم مثلي صامتة مقيدة تعاني بانتظاره من قسوة أخيها، وأخذ الفتى دوره في العقاب.
لكنني اليوم كبرت. صرت أسلم قدميّ الى الأرض بتصالح إلى حيث تأخذها، وأتوقف عن لعب أي دور بطولي مكابر أمام الحزن، والمدهش انني أبكي وأصرخ وأشتم وأطلب النجدة وأهدد وأنهار وأحزن، وأعترف، وأصرح بهذا ببساطة.. لكن ما من أحد يرقبُ هذا عليّ بعد.