موضوع مقال مشارك في عدد "الحرب" رقم 27 لمايو 2020 من مجلة (فنون)
____
"هبطت على تربة جديدة كظهور لهجة غليظة/
كقماش متيبس، وابتسامة يائسة/
على استعداد للتأقلم، والعمل الجاد/
لنسيان الحرب/
ونسيان الدم."
بتلك الطريقة نفسها، التي تصف بها الشاعرة وارسان شاير شعورها كناجية من زمن الحرب، بتلك الطريقة يهبط الشعر، على صفحات جديدة من الحياة تسعى لنسيان الحرب، ونسيان الدماء. ولكن، في الوقت ذاته، تتذكر.. لترفض المشهد ذاته وتقاوم تكراره، وتمنع تبرير حروب أخرى.
كثيرا ما تعبر العالم أسئلة عن تأثير الحرب على الشعر، ترى هل يتأثر الشعر حقا، كما أو نوعا بظروف الحرب؟، وما موقف الشاعر من الحرب عموما؟. ربما دور الشعر لتضميد جراح الحرب ليس ماديًا، لكن يد الشعر لم تزل تربت بإصرار ورفق في آن -وإن لم تضمد- في أثر ما مرت عليه الحروب. فأحيانًا تبدو القصيدة بعد كل عاصفة من العنف في الكون، هي صوت الصراخ الأكثر حساسية في وجهه. وكما لو أن الشعر يصبح أكثر إنسانية وحيوية في أطوار المعاناة، فالحروب التي مر بها الشعراء من بلاد عدة أنتجت شعراً جميلاً غنيًا وحياً.
في سبتمبر 2015، أثارت صورة جثة الطفل السوري "أيلان" البالغ الثالثة من العمر ممدداً على بطنه على رمال شاطئ بودروم جنوب غرب تركيا صدمة حقيقية لدى نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثم على الصفحات الأولى للعديد من الصحف الأوروبية، وطغت موجة تأثر في العالم وأثارت التعاطف والغضب معًا من تقاعس الدول المتقدمة عن مساعدة اللاجئين.
وهنا كان الظهور الأول لكلمات رثاء الشاعرة البريطانية الجنسية والصومالية الأصل "وارسان شاير" التي اختارت أن تنطق بها شعرًا، "عليكم أن تدركوا أنه ما من أحد يضع طفله في قارب/ ما لم يكن الماء أكثر أماناً له من اليابسة"، مرثية ضحايا أزمة تدفق اللاجئين عبر البحر إلى أوروبا وغرق الآلاف منهم، بقصيدة لا تنسى:
"لا أحد يزحف تحت الأسوار/ لا أحد يريد أن ينتهك الحدود/ أو يحصد الشفقة/ لا أحد يختار مخيمات اللاجئين/ أو فجاجة التفتيش الذاتي/ حيث يتألم الجسد/ أو السجن/ إلا لأن السجن أكثر أمنا/ من مدينة تحترق".
بالطبع في أزمنة النزاعات، وبينما تصبح مفردة الشهيد سلعة يروج لها الجميع، كل بطريقته، قد يحاول الشاعر أن ينقي قصيدته من كل ما يمت للعنف ولموت الإنسان بصلة. لكنه مرغما يعود، ارتباك الشعراء أمام الحروب رسم ملامح الكثير من التجارب، دون أن يحاذر أحدهم دخول مفردات القتل للنص. فالشاعرة السورية رشا عمران لا تستطيع إقصاء ذاتها عن الالتحام بموت الشهداء: "كأنني أم الشهيد/ أنزل القبر/ قبله".
هكذا وعلى مدار أزمنة مختلفة من تحسس الحياة تحت وطأة الصراعات البشرية، قام العديد من الشعراء الذين يمثلون شعائر ووجهات نظر مختلفة للغاية، بكتابة ردهم المستمر على الحرب وإرثها.
"موضوعي هو الحرب، وحسرة الحرب. الشعر كثيرًا ما يكمن في الحسرة" - كتب "ويلفريد أوين" هذه الكلمات في عام 1918، حيث صاغ مقدمته للمجموعة التي لم يعش ليرى نشرها.
الحرب والموت مفردتان مربكتان دائمًا للشعر، سؤالان مفتوحان للأبد أمامه، وهما معًا في السؤال ذاته الذي طرحته مسبقًا الشاعرة رشا عمران ليطوف حول كلماتها: أين الكتابة من فيض الدم؟.. وعن جدوى تلك الكتابة أمام تدفق الدماء ورصد يوميات الحرب قالت الشاعرة في تصريح لها: "الكتابة لا تغير أي واقع، وسط الموت والحروب، هي تساعد على التجاوز، هي بمثابة علاج للكاتب، وهي فعل مقاومة ضد الموت، مهمة الحروب هي تعميم الموت المادي والنفسي، من لم تقتله الحرب، أصابه عطب نفسي، الكتابة تساعد الكاتب على مقاومة الإحساس بالعطب والموت، هي ربما أيضاً تساعد القارئ، القراءة أيضاً فعل مقاومة".
لهذا تتخلص الشاعرة من صورة موتها في النص: "ليس ثلجاً ما تراكم في وسط الغرفة/ تلك هي أنا/ ملفوفة بمئات الأكفان/ أستعد لصورة/ جماعية".
بينما حين سُئل الشاعر لويس أراجون: لماذا لم تكتب أثناء الحرب؟. أجاب ببساطة: لأن الكتابة مع أو ضد الحرب دعاية لها. فهل الصمت خيار شعري يفرض نفسه أحياناً حين تخرج الإنسانية عن طورها؟. كما في قصيدة للشاعر السوري مروان علي: "في الحرب لا تبحثوا عني/ أنا هنا/ في كرصور/ متمدد على العشب/ تحت شجرة التوت/ أنتظر العائدين.." وهو الشاعر نفسه، المعهود من شعره مرافقة آثار الحرب في وطنه والنبش بين ركامها. والذي كتب عن قسوة الألم الذي تتجاوزه الحياة حول ضحايا الحرب: "المذيعة تقول: صباح الخير/ الجثث الطازجة لا ترد عليها".
فماذا قد يفعل شاعر، تحاصره أهوال الحرب والخراب وصور القتلى والجرحى ومشاهد النازحين عن ديارهم قصراً، سوى أن يضع رأس نصوصه الجديدة في مقبرة جماعية. وفيما يشبه السباق مع الموت يلجأ الشاعر إلى اللقطات الشعرية المختلسة من الحياة، يصنع خلالها مداراً لفعل شعري لاهث، وعبر نصوص لا تتجاوز بضعة أسطر، يحاول من خلالها أن يقتنص المشهد والحالة واللقطة، أن يصل إلى نقطة السكون، قبل أن يسبقه الموت إلى ذلك، في شكل قنبلة وصاروخ، أو سيارة مفخخة.
"وهم يتفقدون قتلى الحرب/ وهم يبحثون عن وجوه أليفة/ في أكوام تلك الجثث/ المجهولة الهوية/ كنت معهم/ كنت بينهم/ أبحث أيضاً عن جثتي". - الشاعرة كاتيا راسم
ما الذي ينقذ الشعر والشاعر من مطحنة هذا الواقع، لا شيء سوى التشبث بإرادة الحياة، بتنفس الأمل، ولو في لقطة حية فرت من بين الركام. على اللغة أن تبقى قدر استطاعتها أعلى من سقف المأساة. الشعر يكره الحرب، والحرب بدورها تتضاءل أمام لغة الشعر، ينكمش ظلها. تصبح في لغة الشعر مجرد شرخ في جدار آيل للسقوط، وعليه أن يقام مجددًا. وعلى الخيال ألا يملك فقط المقدرة على إدراك تفاصيل المشهد، بل أيضاً المقدرة على تخطيه وتجاوزه، وترميم ندوبه، ومحو جلالته أحياناً.
في نصها "تهويدة" ترفع الشاعرة كاتيا راسم سقف لغة الشعر فوق لغة الحرب لتسقطها في غفوة بإمكان العالم أن يتجاوزها: "نامي أيتها الحرب نامي ../ نامي إن أردت في سريري،/ نامي في شِعرٍ كثيرٍ كتبته فيك وعنك/ نامي أيتها الحرب إلى أن يذهب أطفالنا إلى المدارس/ إلى أن يعود آباؤنا المتعبون من المخابز/ نامي إلى أن يلتقي عاشقان في باب توما ويعودان محملين بالوعود/ نامي إلى أن يصل المسافرون إلى وجهاتهم محفوفين بعين الله و دعاء الأمهات/ نامي إن شئتِ في سريري/ نامي أيتها الحرب نامي/ إلى أن يولد كل الأطفال/ إلى أن يكبر كل الأطفال".
لقد انكتب الشعر عن الحروب جيدًا لدرجة أننا نجد أنفسنا نتساءل عن الفائدة حتى من محاولة التحدث بأصوات أخرى. قام ذلك الصوت بتجميع أهوال الحرب بشكل مرئي يحول إرث العنف إلى خلاصة من عاطفة، وهكذا صار شعرهم لا يمكن التغلب عليه.
لكن هذا لم يمنع بعض الشعراء من أن يمجدوا بعض الحروب وإرث حالاتها، أو يبرروها حين تصبح في تصورهم الطريقة الوحيدة لنيل الحرية والعدالة. ذلك ما جعل الشاعر "دي إتش لورنس" يقول عبارته الشهيرة: "الغضب عادل في بعض الأحيان، أما العدالة فليست دائمًا عادلة.".
على النهج نفسه، في العام 1938 شن "أورويل" هجوما على الشاعر الأنجلوأميركي "أودين" بعد أن قرأ له في أحد قصائده بيتا يبرر الاغتيال: "اليوم الزيادة المتعمدة في فرص الموت/ القبول الواعي بالذنب في الاغتيال الضروري". يقول أورويل تحت صدمة هذا المقطع الشعري "تنتج حضاراتنا بأعداد متزايدة نمطين: الشقي والغريب. وهما لا يلتقيان، لكنهما ضروريان، أحدهما للآخر. شخص ما في أوروبا الشرقية يصفي أحد أنصار تروتسكي، وشخص ما في بلومزبري يكتب تبريرا لذلك. المؤكد أن الحياة الآمنة كلياً في بعض العواصم هي السبب الذي جعل التعطش لسفك الدماء ــ سفكها في المكان البعيد ــ شائعاً وسط مثقفيها. ففي وسع السيد أودن أن يكتب عن (القبول بالذنب في الاغتيال الضروري) ربما لأنه لم يقترف جريمة قتل، ربما لم يُقتل أي من أصدقائه، ربما لأنه لم يشاهد جثة قتيل.
"قبل أن يرتكب حرباً/ على العالم أن يعد للعشرة/ لكن ماذا سنفعل بقاتل/ لا يستطيع العد/ إلّا مستعيناً بجثثنا ؟!" - كاتيا راسم
وفي ظل تلك المأساة المتنقلة بين حدود العالم، لا يعرف بعض الناس سوى صورة واحدة يحتفظون بها للماضي والحاضر والغد، إنها صورة الدم وأشلاء الضحايا، التي صارت تسكن الشوارع والبيوت والمخيلة، والشاعر من بين هؤلاء الناس يخزن مأساته.
ومن مأساتها تنطق شاير: "لقد انهرتُ مرات عدة/ إذاً ماذا يخبرك هذا عني عدا عن كوني أعيش في حرب ؟" - "أريد أن أحب/ لكن تنبعث من شَعري رائحة الحرب والهرب والهرب." - "أمضيت أيامًا وليال في بطن شاحنة؛/ لم أخرج منها الشخص نفسه/ أشعر في بعض الأحيان وكأن شخص آخر يرتدي جسدي. -وارسان شاير
في مثل هذا الواقع المأساوي لا يفتعل الشاعر قصائده، ولا يقيم حواجز وفواصل بينها، وبين ما يعيشه ويلمسه ويحسه بالفعل... إنه يكتب بعصب عار، ويلتصق حتى بمساحات الصمت والفراغ الموحش حوله وفي الداخل أيضاً.
في ديوانه الطريق إلى البيت يقول مروان علي: “رحل الجنود، تركوا خلفهم جثتي/ رأيتهم يبتعدون بسرعة/ هم لا يعرفون/ هذه البلاد صغيرة/ كلما ابتعدوا/ اقتربوا من جثتي أكثر”.
في الشعر استطاع الشعراء التماهي من موت من حولهم، ومحاولة كنس غابات من الدماء بكلمات وفيرة، واسترداد صورة الوطن الذي حاولوا انتزاعه منهم، أو الصراخ لحقهم في العودة، مثلما حاولت الشاعرة الإنجليزية نيكيتا جيل في نص غاضب: الوطن حيث كان عليك تعليم أطفالك/ كيفية الركض من رجال/ يرتدون الحرب والدماء./ الوطن كان ملجأك/ والآن،/ بعدما - بقسوة - انتزعوه منك/ يسمونك لاجئًا."
الحرب لدى الشاعر لا تزال سؤال لاهث، ومفتوح بطول الأبد، لا يعرف من أي قبر يمكن أن يلتمس الإجابة، ربما ليؤكد أن الحياة يمكن أن تنهض من جديد من بين الخراب، لكنه يحفر جزء من طريقه عبر الشعر.
يؤكد الشعر على ذلك أيضًا، حين يُكتَب في نص مروان علي: "وأنا أفتح النافذة/ أرى شجرةً وحرباً/ تبقى الأشجار/ وتغادر الحروب/ إلى الكتب".




