قرأت يومًا عن سيدة استرالية تقول بأن الكلمات لا تأتي مع الهواء بالمجّان، إنما بالممارسة، وقد أخذت على نفسها عهدًا بأن تكتب كل يوم ما لا يقل عن 50 كلمة، ثم لاحظت بعد شهر من الاستمرار على هذا العهد أن الكلمات أصبحت تتدفق بين يديها كالنهر.
رأيت نظرتها للكتابة واحترمتها، ورأيتني على العكس، لا أكتب بالممارسة، بل بالصمت. الكتابة تغادرني كلما اختلطت بالبشر وأفرطت في منح رأسي لأصواتهم، أو الإفراط في منح كلماتي لهم - والتي لا تشبه نفسها بالداخل حين تخرج في صورة كلام بالكثير من الأحيان - وتتدفق في روحي وبين يدي كالنهر كلما وازنت تواصلي مع الغرباء وملت للصمت عن ضجيج العالم. الكتابة لدي، تحط بقربي في الصمت، وتغادر كعصفور ضجر كلما امتلأت بضجيج الآخرين.
والحقيقة، أنها ككل شيء آخر أفعله، تزدهر في الصمت لأني أحب الصمت، عدا مع أشخاصي المفضلين. أكره أي كلام أكثر من اللازم سوى في دائرتي المقربة. وأحب الهدوء، وأكره الاختلاط الزائد بكل ما لا يناسبني من العالم.
طبعا أتذكرني كثرثارة صغيرة كانت تهوى الكلام وحكاية الأشياء في طفولتي، ولازلت كذلك مع المقربين لي، أهوى جذبهم بحب إلى جواري كطفلة لم تكبر، ومحادثتهم ولو عن أي هراء فقط لاتواصل معهم والاستماع لهم إلى مالا نهاية، بنفس قدر رغبتي المعاكسة في إطفاء صوت العالم الخارجي والتخفف من الأصوات الأخرى.
أحيانًا نتعرف على أشياء تشبهنا، ليس لأننا نفعل المثل، بل لأننا ننتهي للمثل، للتعبير عن طباعنا. حتى في الكتابة. وهكذا أنتهي كتلك السيدة ولكن على طريقتي، للتدفق كالنهر.
وفي مشهد من فيلم آناستازيا لأنجريد برجمان، كانت البطلة تقول أنها تسعل عند الخوف والانفعال وهكذا تعرفت عليها جدتها. بينما في حكايتي كنت الطفلة التي ترتعش وتصاب ببرد مفاجيء حتى في أكثر الأيام صيفًا، كلما انفعلت أو شعرت بالتوتر أو الخوف. وأحيانًا كانت تخرج الكلمات من بين شفتي وهما ترتعشان كما تفعل أصابع يدي النحيلة ويحمر أنفي. وكانت أمي تحضر معطفًا وتضعه حولي أحيانًا لأنها تعرف أنني كلما انفعلت أبرد. كانت تلك طريقة جسدي دائمًا في التعبير، بأن يتحدث بصوت منفرد عن صوتي. أو عن صمتي. كبرت وسأكبر أكثر ولا زلت نفس الطفلة التي ترتعش بردًا كلما انفعلت ويحمر أنفها كأرنوب الثلوج. وكلما تذكرت مشهد أنجريد برجمان وهي تسعل، ومشهد جسدي الهش وهو يرتعش.. أعرف بأننا نشبه بعض الأشياء، كما تتشابه المواد في الكون، لا فيما هي عليه.. بل فيما تعبر عنه.