"أين أذهب بكل هذا الحزن..؟!".. هل ستجد لي فيروز إجابة لا تجرح القلب أكثر..
كنت أكررها في عقلي كما لو أنها صلاة لإنسان ضل طريقًا.. والزحام يحيط بي على الأرض، انت تضيع ألف مرة حين تكتشف أن لا بيت لك في هذا العالم..
كانت فيروز تؤدي دور البطولة بالطريق، أو كما قال نيرودا: "أود أن أصنع معك ما يفعله الربيع بالأزهار". فيروز أعطت لزحمة السير تلك المرة سببًا يليق بها، فلا مسؤول يمر ويسد شريانًا في عروق الطريق، ولا شجارًا يؤدي لإغلاق نصف العاصمة، حتى سائق التاكسي الذي اعتاد شتم كل مفردات المرور، خشع لاسم فيروز عندما خرج صوتها يربت علينا وسط الزحمة. أردف يقول: "فليوفقها الله، تعطي من قلبها وهي تغني، صحة العمر لها"، كان يفكر بها لأنها أعطته دائمًا ولو ملكت أكثر منه.
كما لم يفعل أي ممن أحببنا في العالم سوى أمهاتنا على أية حال.
"شوي وبيفلوا...."
ما يشبه كل مسرحيات الرهافة المؤقتة الذي تنهال بها الحياة، والحسّ الذي يخفت بعد حين آخر من بعد زوال هالة المسافة، نحن نحفظ تلك المشاهد جيدًا، كنت وأنا أفكر بحزن في قصص كتلك، أعرف أنني صرت هشة للحد الذي أدفع فيه الناس بعيدًا عني في رفق أو حدة، حين أدرك أنني قابلة للعطب. أكثر هشاشة من صوت فيروز وهي تقول أنا فزعانة.. ومن صوت إديث على المسرح الحي.
فيروز مثل إديث قدّمت من نفسها بكرم، زادًا من العاطفة يقتات به شعب بأكمله. عندها قد نفهم مَثل المسيح عندما أطعم ببضع أرغفة من الخبز والسمك وفرة من البشر. فيروز ببعض الأوقات، أعطت لكل شيءٍ قيمته، لكل إحساس "مارق"، لكل تفصيلٍ خارجي، لكل لحظة هاربة، نتعلق بالمرأة الدافئة الهشة الجميلة، لأنه بمن هم مثلها نستحق أن نتعلق.. تفعلها ثم تطوي كل ذلك في عتمةٍ بالقلب لتكون هي وحدها النجمة عليه بتلك اللحظة. لحظة الصوت.
كانت ناعمة حد أنها أعطت للكلمة الصلبة على شفاه البشر ثوبًا طيبًا، كأنها تعيد ما قاله لويس أراغون: "لا شيء قد يسلخ بعد الآن، الكلمة المغناة عن الشفاه"، قبل أن يضيف: "إننا نتكلّم الأغنية نفسها وتربطنا الأغنية نفسها، والقفص هو القفص". والقفص كان الجسد، أما فيروز فقد حررنا صوتها مراراً.
الشوارع مزدحمة، والحزن يفيض عن حاجتي، لكن المكان يسع الكثير، وصوت فيروز يسعني.. والقلب يسع أكثر.