20 ديسمبر 2019

قصائد "أجمل الوحوش التي عضت روحي": لا غاية للكتابة إلا الكتابة

 قراءة نقدية للشاعر: بهاء إيعالي.. في ديواني الأول / على ألترا صوت 



يتخفّف نصّ أسماء حسين في باكورتها الشعرية (رواشن للنشر 2019) من تعقيدات اللغة وتكليفاتها التصويريّة الباهظة، مقتربة قدر الإمكانِ من لسانٍ خفيفٍ مسموع، لكن ذلك لا ينفي صفة الصعوبة عن النص أبداً، فيما يشبه ذلك الغموض الذي عرّفه بودلير على أنّه نوع من المجد الشعري، فمستعينة باقتباسٍ لخوان رامون خيمينيث "الشعر فنّ الأقليّة الهائلة" تقودنا المجموعة إلى فكرة مفادها أن الكتابة لا غاية لها سوى الكتابة فقط، فلا داعي لتفسير ما تكتبه بقدر ما ترغب بالقول "هاكم نصوصي بين أياديكم، اقرؤوها فقط".

..

قد نجد نفسنا نقارن الشعرية اليوم بظاهرة التماسك العصبي لدى ابن خلدون، فإهداء أسماء نصوصها الشعرية للنخبة الشعرية التي أشارت إليها بالأقلية الهائلة تردّنا إلى العصبية التي عرفها ابن خلدون بالتلاحم والتماسك، هذا التلاحم والتماسك نجده بين الشعراء عبر محاولاتهم الجادة لكتابة جديدةٍ نخبويّة لا يمكن تفسيرها بل ولا ينبغي ذلك، وقد أشارت لها في اقتباسها لمقولة فيرلنغيتي "مثل ٍ إناء مليء بالورد، لا ينبغي للقصيدة أن تفسّر". ولعلّ هذه الفكرة المنسوبة للشعر اليوم تبقيه قويّاً، فليس كلّ ما يصل للحشد العريض من القراء هو بالضرورة عمل جيّد في الشعر.

إنّ الوالج لمجموعة القاصّة المصرية يجد نفسه مصطدماً بنفيّ حادٍ منها لشاعريّتها، وذلك حين تقول: "لست شاعرة/لكنني أحب شعور أن أبدو في عينيك قصيدة"، ولربما مردّ ذلك هو محاولتها إبقاء خيطٍ رفيع بينها وبين الحشد، بيدّ أنه وبحسب تعريف تودوروف للشعرية، لا يمكننا اغفال شعريّة النصوص ال 55 الممتدة على صفحات الكتاب ال86، فلو أنّ النص ليس قصيدةً بتفسيرها الإصطلاحي، غير أنّه نصّ مثقلٌ بالشعرية العالية، تماماً وقت تقول: "أفكر في الصوت، إلى أين يذهب/أفكر في الصوت، لو أنه يبقى/لو أنه لا يجيد الانصراف.."

ويلحظُ في سمات هذه المجموعة تسريد الشعر فيها، ولربما لا يمكن اعتبار هذه الظاهرة جديدة على الشعر العربي، فهي موجودة منذ قصائد الجاهلية القديمة، كحكاية امرئ القيس مع ابنة عمّه عنيزة أو وصف الخنساء لسباق خيلٍ بين أبيها وأخيها، وصولاً إلى المسرح الشعري اليوم كما في كتاب "زوكالو" لأدونيس أو "لماذا تركت الحصان وحيداً" لمحمود درويش، ولا يمكن لنصوص أسماء أن تخرج من السرد الذي بدأت منه، تحديداً لناحية السرد البصري بحيث تبدو العين هنا مسجلاً لحركة الحدث وسرعته، غير أنّ هذا السرد هنا لا يمكن أن يعطي للقارئ إثارة وقلقاً لمعرفة الخاتمة بقدر ما يأتي هنا لإعطاء الشعر أبعاداً زمانية ومكانية لا أكثر.

بالرغم من أنّ الشاعرة تستعين بوحدتها الخالصة، والتي تجد فيها بقاءها على قيد الحياة مع هذا العالم: "لأن لا أحد لي/لم يكن لي إلا العالم". غير أنّها وفي مكانٍ آخر تأبى أن تترك هذه الوحدة تستمرّ، فتجد عزاءها الخالص في الحب الذي تستعيده من ذاكرتها وخيالاتها المتشكلة في آن، بذلك يأتي ضمير النص متقلّباً بين الأنا والهو والأنت، مرتدية الحب بكافّة وجوهه ومقتربةً قدر الإمكان من جوهره.

هذا ونجد أن التأثير البورخيسي بعدم الكتابة خارج ثقافة الكاتب له حضور مهمّ في نصّ أسماء ولو كان قليلاً، فثقافة الكاتبة بارزة، تكاد في مكانٍ ما تكون اللغة السائدة، أكان ذلك في ثقافتها البيئية المصرية كاستعانتها بعبارات بالمحكيّة "شوفيلي ميّتها إيه" مثلاً وعوالم موجودة في تلك البيئة: القطن، العشب، الماء، المسافات الطويلة، الضجيج الدائم؛ أو دخولها في الثقافات العالمية بدءاً من الميثولوجيا اليونانيّة وصولاً للعنة دافني. أي هو تراوح بين التمسك بالمقولة السائدة "الشاعر ابن بيئته وثقافته" والتفلّت منها.

ربّما يبقى للسرد التاريخي والروائي حالته الفريدة في وصوله للحشد الكبير من القراء تحديداً، لكن اليوم ومع بدء التزاوج بين الأشكال الأدبية بشكلٍ أو بآخر، يمكن القول أنّ النص الشعري الحديث قد اتخذ منهجاً جديداً في تسريده اليوم، لكنّه سيأخذ نزعة متطرّفة أكثر في نخبويّته الخالدة وستتلاحم هذه الأقلية مع انخفاض نسبتها وتمسّكها بغاية الكتابة لأجل نفسها، وحتماً ليس من سوءٍ لهذا الأمر، بل سيكون بوابة لتجارب شعرية ستكون أساسية ذات يوم، ربّما.