ذات يوم قرأت مقالة هي أقرب لتدوينة سفر لبسام حجار، كانت تشبه الشعر الذي يسجل اليومي والعادي. وكان يكتب الشعر حتى وهو يحكي أشياء عابرة وأحداث يومية، كان يحكي الحدث الرتيب بصيغة شعرية. شعرت بفرح عظيم. لأني شعرت بذلك، شعرت بأن بسام شاعرًا حتى في مساحات الهواء التي تملأ رئتيه. لا أستطيع أن أتصور الشاعر الحقيقي إلا شاعرًا في روحه ومواقفه ونظرته للحياة. لا أقصد أن يسير يتلو شعرًا أو يتقمص أبياته أو يصطنع وجهًا راقيًا بلاستيكيًا أو يسمو عن عبث إنسانيته ونقصه الأصلي ولا يقذف بعبثه الطبيعي اليومي وفوضاه الشخصية في وجه الكون. أقصد أن يعيش الشعر في دمه، أن يرى العالم خلاله. ولطالما آمنت أن الشاعر الحقيقي والكاتب الحقيقي يكتب العالم كما يراه، الكتابة رؤية للعالم. وكل ما عدا ذلك من محاولات فهو مزيف. وأنا أرى الكتابة وجه آخر للشخص هو أقرب من ملامح جلده. وأكتب لأني أرى وجهي في الكتابة واضحًا أكثر مما هو عليه في المرآة. الكتابة بذاتها ترجمة كما كل شيء بالكون هو ترجمة. إنها ترجمة الشخص لصوته الداخلي. ذلك الصباح البعيد قال بسام في مقالته أشياءًا عديدة عن المدن والسفر والبرد. اكتشفت أنه يقرأ طباع المدن كالأشخاص مثلي، ويرى لها قلبًا كما أفعل.. كان يتحدث عن قلب بيروت البارد وقلب برلين الدافيء، وكنت أتذكر المدن التي لم أستطع أن أحبها أو أتحملها، فقط لأني شعرت بقلبها باردًا، والمدن التي أحببتها على وضاعتها لأن لها قلب دافيء. ولم يفهمني أحد. حينها عثرت على صديقي في بسام مرتين. مرة حين أحببت بسام في الشعر، ومرة حين أحببت الشعر في بسام. كان بسام يعرف أن للمدن عاطفة وذاكرة، أنها تنفعل وتتأثر وتحنو وتغضب وتنحط أحيانًا، وأن لها قلبًا. والقاهرة، ليس قلبها ببارد أو بدافيء كذلك. لكن لها قلب أم، وتحمل ما يحمله قلب الأم. هناك أمهات لسن حنونات، ولسن قساة كذلك. هم فقط أمهات.. هكذا. القاهرة بكل إساءاتها لنا، وبكل غضبنا واستيائنا منها، تظل في المساحة الآمنة من عاطفتنا التي لا ننقلب تمامًا عليها. لأننا لا نقسو على أمهاتنا مهما كن سيئات في الأمومة وأسئن معاملتنا. وللقاهرة قلب أم لا نضيق بأمومته، مهما ضاقت بنا كمدينة.
**