17 ديسمبر 2018

نستغرق الكثير



استغرقني الأمر أيام متكررة لأقنع أحدهم أنني رسامة جيدة لكني لا أجيد الرسم الكرتوني. وأن لكل رسام مجالاته التي يجيدها. وأننا لا نجيد دائمًا كل ما نحبه بل ما نستطيعه. واستغرقت مدة زمنية لإقناع أصدقائي أنني قاصة جيدة وشاعرة لا إراديا لكنني لا أجيد كتابة رواية، والرواية بحاجة لأشياء لا أدعي امتلاكها أولها الصبر والتفرغ، وربما لن. واستغرقني زمنًا أطول من كلاهما بكثير لأقنع قلبي أنني أتقن الحدة والصرامة وقلب الطاولات بالشكل الذي يفاجيء الجميع عند غضبي وانجراحي لكنني لا أجيد القسوة. وأنني في كل مرة أغلقت الأبواب في وجه من جرحوني أو طردتهم خارجًا بحسم وصرامة، كنت أبكي خلفها. أبكي وأكتم بكائي ولا يعرف به أحد. أبكي وأسقط أرضًا وأجلس كطفلة خائفة مخذولة ترتعش ولا تثق بقدميها مجددًا فلا تخطو لمصافحة أحد مهما بدت أيديهم طيبة في البداية. طفلة رسمت المسافات بدقة بينها وبين الجميع كي لا تجلس مجددًا وتبكي بسبب أحد. كل الذين جرحوني، كلهم، لم يروا من وجهي سوى الحدة التي أغلقت الأبواب بقسوة، ووحدها الأبواب رأت دموعي خلفها على ما فعلوه بي. وحدها الأبواب تعرف أني أستمر في اللامبالاة ولا أفتحها مجددًا كي لا أبكي مجددًا. وحدها تعرف أن كل ما أريده أن أكون سالمة خلفها بلا دموع أو جروح أو وهن. لطالما تهت في الشوارع والمناطق التي حفظت وجهي ولم أحفظها أنا، ولطالما رأيت في أحلامي أني أتوه وأضيع في أماكن لا أعود منها.. أنا فتاة لا يمكنها حفظ وجهتها المقصودة في الواقع والأحلام معًا. لازلت أحصل على العنوان المنشود من أحدهم وأصل للمكان لأتوه فيه وأسأل الغرباء سبعين مرة.
استغرقني الأمر أيامًا لأقنع أحدهم أنني لا أتقن الرسم الكرتوني، واستغرقني المسافة بين الحلم والواقع لأدرك أن ذاكرتي تخلت بكامل ارادتها عن عبء حفظ الأماكن. واستغرقني عمرًا بأكمله لأقنع قلبي أنني لا أتقن القسوة.
وليتني.. ليتني أتقنها، وأتقن الرسم الكرتوني وكتابة الروايات وقيادة السيارات أو حتى حفظ وجهات الأماكن التي أضيع وأتوه فيها دائمًا حتى أصل.. لكننا لا نجيد دائمًا كل ما نريده بل ما نستطيعه.