فى ليالٍ كثيرة كتلك الليلة، كنت أود أن أمنحك قبلة اضافية قبل أن تغفو، فأخشى أن أنشر 'كفضائح الصحف' قلقى عليك.
لكن الصحافة لم تعلمنى الحب يا أبى .. كما علمنى الفن الذى سلبتنى قربه وقدمتني لها.. كنت أفضل حديث الألوان عن لغة الحب أكثر. غير انها علمتنى ان الهوامش متحركة .. والمتن وحده يصنع نفسه.
انت لست المتن فى حياة أحدهم مطلقًا .. انت احدى هوامش الحكاية. جملة ضائعة فى جسد البدايات/ ربما النهايات قد لا يلتفت لها أحد حينما يمنح عينيه جولة بالنص.
انت متن نفسك .. واحدى هوامش الآخرين. | والآخرين جميعًا .. ما هم الا احدى هوامشك.
وأنا عندما أحببتك ورسمتك بكراسى الصغير حين كنت طفلة .. أحببتك بلغة الألوان أكثر.
أعرف أنه سيأتي يوم وأستيقظ فيه دون أن يصل إلى مسامعي سيل الأصوات المنساب من الراديو القديم بحجرتك، لن يكون هناك أي صوت على الاطلاق، لا صوت شيوخك القارئين، ولا صوت حفلات أم كلثوم التي تسهر أمامها، ولا صوت تذمرك من نسياني للحليب فوق النار أو تأففك من قطتي وأخطائي الصغيرة، ولا حتى صوت بكاءك الخافت أمام صورة أمي الذي أتغافل عنه عن عمد حفاظًا على سلام اللحظات، كي لا يتحول لما هو أكبر من هذا.
وحينها سأفتقد تلك الأيام التي كنت فيها هنا، تجلس على مقعدك المفضل بالحجرة، تتكلم بكبرياء فائق عن حروبك الصغيرة، وتعطي الأوامر الصارمة هنا وهناك، تتحدث بحب عن عبد الناصر، لا تتخلى عن عادتك لقراءة الجرائد الغير مجدية بالمرة، تثرثر معي كثيرًا عن أخطاء الآخرين التي لا تعنيني بالمرة، وهفوات أخوتي التي لا أعيرها اهتمامًا أو أتوقف عندها مثلك، وتظل وفيًا للشاي الأخضر .. تناديني بصوت عال لأسباب تافهة للغاية أحيانا بينما أنا غارقة في العمل، فقط لتقول لي "عليك التوقف عن هذا العمل قليلًا"، وأستمع إلى "كل دة كان ليه" وهي منبعثة من غرفتك بصوت عالٍ أيضا من حين لآخر دون أن تعرف أنها أغنيتي الأخرى المفضلة، تسمعني أدندن مع كوبليهاتي المفضلة للست وهي منبعثة من غرفتك بينما تستمع إليها فترفع الصوت من أجلي، فأبتسم في حنان للأمر، تنفعل عليّ أحيانا وأحيانا تفرغ غضبك من الآخرين بعنف في وجودي أنا، بينما أتحمل الأمر بلباقة واعتياد، ثم تتحول برقة غريبة إلى أب حنون يمكن له أن يتراجع عن أخطائه ويلين بعد قسوة ويحنو ويعتذر ويقبل رأس ابنته الصغيرة ويضمها إلى كتفه أحيانًا. دون أن يعرف أخوتها، أن هذا الجبل يلين معها من حين لآخر رغم كل شيء. ويقبل رأسها برقة وقدسية.
أعرف أني بأحد الأيام سأفتقد وجودك الذي يحيط بي كدرع، وإن كان رغم هشاشته وتآكله مع السنوات لازال يعكس ظله الكبير على حياتي ويهشّ عني ما أخافه من الأيام. أحيانًا لا أعد أعرف من منا يحمي الآخر ويرعاه، هل أنا حقًا من يرعاك الآن .. أم وجودك الحالي لا زال يرعى الطفلة التي بداخلي ويمنعها من الهرب بعيدًا تمامًا عن أصابع العالم والآخرين. للداخل الذي تقبع فيه جيدًا ولا يصل إليها أحد.
ما أعرفه أكثر من أي شيء، أنك قد تكون عصيًا على الاحتواء أحيانًا، وقد تقول أشياءا لا أحبها، أو تقوم بأفعال لا أفهمها .. وستتذمر وتغضب دائمًا كعادتك، ولكني سأتقبل كل ذلك بصدر رحب مع الأيام، وأدرب الروح على احتواء كافة وجوه الغضب، وأروض القلب كي يسع كل شيء..
لأنني يوما ما قد أجلس أمام صورتك كما تجلس أمام صورة أمي في المساء، وسأصنع لك إطارًا أبيض اللون بجانب إطارها الأخضر، وسأتمنى لو أنك تخرج من تلك الصورة لتتذمر وتغضب ولو قليلًا، وتنفعل على أي شيء بينما أتقبل الأمر في هدوء، ثم تقترب من حجرتي في النهاية لتقبل رأسي كعادتك. سأتمنى كما ظللت أتمنى لسنوات أن تعود أمي لتلملم شعري عن وجهي وتضمني إلى صدرها حين أبكي، وتخبرني بأني بخير وبأن العالم بخير، وأنها لا زالت هنا رغم أي شيء.
الخاسر الذي كسرته خسارته الأولى، الكبرى .. يعرف كيف يدرب الروح على الاتساع والتقبل، كيف يضع الحزن بجوار أخوته ويربت عليهم كل ليلة، ويواجه العالم بوجه خالٍ من الأمر. وكيف يضم إلى قلبه خسارته الثانية، ويرعاها بما يملك من حب ووهن. قبل أن ينفلت الوقت وتنتهي فترة السماح بوجودها.