7 سبتمبر 2018

رائحة قهوة أحلام



أحب أحلام كثيرًا.. فوق حبي المطلق لكل أصدقائي وأحبتي المقربين من فلسطين، ومحاباتي الواضحة والتي أعترف بها تجاههم، أحيانا لشدة المحاباة حين يرسل لي أحدهم "ريكوست" وأدخل لأرى المتاح من صفحته كما هي العادة، ما أن تقع عيني على مدينة فلسطينية في الموقع أقبل، وغالبا يكون أحد أصدقاء أصدقائي، كذلك لا أهتم بخطط النشر والتوزيع كثيرًا، حتى أنني أدرك سوء توزيع ناشري مثلًا كثلثي ناشري الشباب هنا، ذلك لحيرة أصدقائي المستمرة في الوصول لكتاب أصدرته، ولا أهتم بالدخول معه في نقاش سوى لفت نظره برسالة عارضة، ولا أعرف ما يفعل كتابي ذلك في المكتبات حتى، أتعامل مع اني أصدرته وألقيته خلف ظهري، وقمت بواجبي القصير نحوه، أعرف جيدًا ما يفعل الناشرون مع الكُتّاب ولا أهتم سوى بأني القيته خلف ظهري، وأسمع مثلًا الترهات التي يخبرني بها أحدهم حول لا جدوى كتابة القصة القصيرة - والتي أعشقها - وضرورة اتجاهي للرواية حتى وان كنت سأكتب قصة "نقش فراخ" على حد قوله كما يفعل الكثير، وذلك لأنها تبيع ويقرأها الناس أكثر وتصنع لكاتبها اسما ومكانة الخ وبلابلابلا. أسمع النصائح الذهبية التجارية لتجارة الكتب ولا أهتم سوى بأني ألقيته خلف ظهري وتفرغت لأبناء جدد أحبهم بحق. لكني أقمت الدنيا لأيام طويلة فقط ليصل لفلسطين، ويحطّ عند أصدقائي، ويزور مدنها قبلي. وذلك المساء البعيد، كنت أنزل من التاكسي وأمشي بالشوارع لساعة ونصف كالتائهة - كنت تائهة حقًا بالأحرى - لأصل لذلك الفندق وأترك نسخة عابرة تطير إلى أحلام، وأحتضن كتابها. أحب كل ما هو فلسطيني الروح، لكني بالأخص أحب أحلام ذاتها. وأرى في أحلام الكثير من فلسطين.. والكثير.. من أم جميلة للكثير من الأشياء والمعاني، على شبابها وجمالها.
استيقظت هذا الصباح وأنا افكر أن أكتب لها مازحة "البن لا يزال في جيبي". أهدتني أحلام عبوة قهوة فلسطينية فاخرة جميلة، مع فنجان خزف ملون لا يلمسه سوى القهوة، وبهارات فلسطينية فواحة زكية الرائحة. مر على ذلك الوقت سبعة شهور تقريبًا، والقهوة لا تزال معي.. في حين تنتهي عبوات القهوة على أنواعها خلال أسبوعين مع فتاة مثلي، تصلح كماكينة انتاج وتكرير بن عضوي للعالم. أحببت قهوة أحلام كثيرًا، ولم أتمكن من إنهائها لشدة تعلقي السنتمنتالي العاطفي بها وخشيت أن لا أشعر برائحتها مجددًا في غرفتي.. استخدمتها باقتصاد، وحب، وثقت معها مناسبات مبهجة، واصطحبتها للحظات طيبة هامة، ولشدة خوفي من تبددها سريعًا من حياتي، صنعت الكثير لتبقى معي أطول وقت ممكن.. صنعت منها معطرة للغرفة، من النوع الذي يتعتق بالزمن كي لا تذهب رائحتها سريعًا أو ترحل بسهولة أبدًا، بعد أن اعتدت عطرها المميز في غرفتي، مختلطًا بخفة مع عطر نباتات النعناع والزنابق البيضاء والبهارات الفلسطينية في كوكتيل ساحر ومفعم بالسلام والخضرة للحظات قبل أن اخرج لرائحة العالم الخارجي وأتصل به وأخلع جلدي الأحب عني، خلطتها بقهوتي المفضلة، ووزعتها على قنينات وحملت منها معي في سفري.. وفي النهاية صنعت معطرة أخرى للتنقل أضعها في حقيبتي، تتنقل معي وتصحبني حيث أريد.. أحب كثيرًا التنقل مع الروائح التي أحب، وخاصة القهوة.. أحب قهوة أحلام بالأخص بحق.. وتعلقت برائحتها. يبدو أنني علقت طفولتي كلها وحنيني كله على رائحتها.
وددت كثيرًا ان أكتب لأحلام: شكرًا لقهوتك يا عزيزتي، فهي مسحت عن روحي الكثير من الغربة ودست فيه السلام حيث حملتني للمزارع الخضراء حيث أجلس كما أراني هناك، طفلة تندس وسط العشب الأخضر وتجس بشرة الأرض بيدها كما اعتادت كما لو أنها تسمع لروحها صوتًا، وكما يسمع الناس نبضات الجنين من بطن امرأة.. لكني خشيت ان أبدو سنتمتالية مضحكة مبالغ فيها وأنا أتعلق بتلك الذرات العسلية المعدودة وتشعر صديقتي بفوات عقلي.. قالت أمي منذ سنوات: ما أحبه في درجة العسلي الداكنة في عينيكِ أنها تشبه عسل لون القهوة.. في الحقيقة رغم أنها كانت تحمل لون العينين نفسه!
استيقظت صباح اليوم ونزلت باكرًا للمشي وحملت المعطرة والقهوة معي.. اخترت بقعة هادئة لا أثر لإنسيّ فيها كالمعتاد لأجلس، وصنعت قهوتي.. بينما أحاول أن أقول لأحلام الكثير عن ذلك في عقلي، غير أنني لم يسبق أن شعرت وليس سهلًا أن أشعر ان هناك امرأة جديرة بكلمة أمي ولو كلمة محاكية، ذات صدفة وجدتني أقول لأحلام أمي، قلتها بعفوية وحب كما لو أنني معتادة عليها لا مجرد مزحة او كنية محبة، وأنا امرأة تقول كلمة حبيبتي وحبيبي للكثيرين المقربين ممن تحبهم صراحة، كما لو أنها توزع طردًا جماعيًا، لكنها -الكلمة- تتغير حرارتها عند البعض لتصبح ملتصقة بذاتها أكثر وتصلهم عارية من أثوابها.. لكنها -المرأة- لا تقول أمي بسهولة ابدًا.
الحقيقة أن رائحة القهوة تلك يا حبيبتي.. تحمل لي شيئًا لا أعرفه، مرتبطًا بروحكِ انتِ أكثر، بشكلٍ ما يجعلني أحبك أكثر، شيئًا يخبرني بأن فيكِ الكثير من كلمة أمي.. بعضًا من أمي.
شكرًا للقهوة الطيبة يا أحلام - وأقوى مدحة يمكن أن أوجهها لشيء أحبه هي أن روحه طيبة - .. القهوة التي أصبحت صديقتي، حافظت على صداقتنا جيدًا، حتى أنني صنعت من عمرها المعدود عمرًا آخر موازيًا، لأمنحها خلودًا مؤقتًا لا يفقده قلبي.. كما أحاول مع كل شيء أحبه وأتعلق به.
بقدر المستطاع، لا أريد لتلك الرائحة أن تنتهي..