لماذا قد يحب الناس المضي نحو انتحاراتهم؟ بعكس ما يقول الشعر عنهم.. فالمنتحرون، بلا شك لم يثقوا بشيء.
فكرة الإنتحار هي عبارة عن صوت قد تسمعه بداخلك، يهمس بأن عليك المغادرة، لا سبب واضح لهذه الرغبة، ليس الحزن ولا الاكتئاب فقط. انها تتسلل حتى عبر الفرح نفسه. هي رغبة تراكمية. ربما تزداد عند إدراك حجم الخسارات كلما مضت.. أو إدراك أنها لن تنتهي.
ليس لتجربة واحدة من الخسارة أو الفقد أو التعرض للخذلان أو الخيانة أو اليأس، فقط. بل التراكم. أو عند نبش ذاكرة ما دون قصد. بلا حرص كاف من التوغل أو اتزان كاف في التعامل مع الأمر.
تذكار خاطيء في لحظة يأس بأن الوقت ينفد في التورط هنا، ما عاد شيئا يستجدي المحاولة، "ما مضى لن يستعاد.. والقليل الذي تبقى لا يستحق عناء الخطوات".
تخيل راحة أن تتلاشى كل الأشياء حين تغمض عينك. كوهم جميل بلا عاقبة.
حتى أني أتذكر أنني في وقت ما كنت أعرفها، وكنت أفكر أن على أمي وأبي أن يتسامحا مع أنني طفلة غنية بالخسارات والتأذي والحساسية.. وغنية بصوت المغادرة.. صوت خافت كصوت قطة أربيها في فراشي منذ طفولتي. يهمس لي ويدعوني للاقتراب كمن يحمل الحلوى ليستدرج ضحية.
وبالطبع استغرق الأمر وقتا ونضجا وألما ووعيا كافيا، لا لأتغلب على الصوت، فقط، بل لأكشفه.
حيث بيني وبين روحي لا شجار ولا أي غضبة.. بل صراحة صافية. وتصالح مع هشاشتي. تتلاشى كل الأشياء حين أغمض عيني. وأفكر كيف أن هكذا لا تتسرب الحياة. فقط رغبة صافية في المغادرة.
رغبة قد تزداد أحيانا، لأن الحياة لم تعد تحتمل بالفعل وأفكر أن كل من ينتمون لي عليهم أن يسامحونني حينها.. في حياة أخرى ربما قد أعود. وقد ولدت من جديد. ربما غزالة كما تمنيت، وربما شجرة او زهرة عباد شمس.. وربما أنا مرة أخرى.
وأحيانا، أمام فقداني الأمل فيما يحدث، كنت أضع لنفسي قائمة أحلام بسيطة وأخبر نفسي بأنني بعد تحقيقها قد أفكر في خطوة التوقف. لكنني أضيف لها أحلامًا جديدة باستمرار. ولا يبدو أنني سأنهيها أبدًا.
لماذا قد ينتحر أحدنا أحيانا؟ ينتحر لأنه كان يخجل من أن ينهار أو يبكي ويطلب المساعدة.
لذلك يمضي الناس نحو انتحاراتهم بهدوء.
"فقط غادر/ي."
يتردد الصوت، وأنتبه له كلما خسرت رهانًا طيبًا أمام الحياة. لكنني أتجاهله وأغفو داخل وداعة الأحلام.
وأعظم إنجازاتي منذ زمن هي قدرة تجاهلي التام لهذا الصوت. حتى وإن كنت لا أعرف إلى متى.
ذات يوم أخبرت صديقي الذي يتوق للانتحار، سرًا.. أن في أحيان كثيرة، تكون فكرة الانتحار هي العامل الأساسي الذي يمكن الإنسان من مواصلة الحياة. بالأصل.
تلك الفكرة التي تحول الوجود من سجن لا مهرب منه، إلى منزل مؤقت تعرف أن بإمكانك مغادرته بالاختيار. الأمر يشبه تلك العبارة السحرية التي تزيل في أحيان كثيرة ترددك عن المضي في شيء: "إذا لم يعجبك الوضع يمكنك أن تستأذن ببساطة وترحل".
هذا المفهوم ذاته عن حرية المغادرة هو ما يحرر الإنسان ويجعله مقبلًا على الحياة. فبدلا من أن تحول انتحارك لموتك، تحوله لفكرة عن حريتك في الاختيار، تزيد من حريتك في الحياة نفسها. فمن بامكانه انهاء الحياة في لحظة طيش جريء، بإمكانه عوضا عن ذلك ان يستغل الشجاعة ذاتها في عيش حياته كما يريد دون ادنى عبء يشغل به نفسه. ودون خوف من شيء.
فما يمكنك مغادرته ببساطة، يمكنك كذلك احتلاله وخوضه بجموح وشجاعة.
وهكذا، في كل مرة كنت أخبر صديقي أن يشرب القهوة معي الآن، وإن لم يحتمل ما يحدث بحياته فبإمكانه المغادرة. وفي كل مرة يجيء الغد، كان صديقي لا يغادر. :')
كانت ترضيه فكرة ادراكه بأن له حق الاختيار والحرية ذاتها فقط. كان ينقصه فقط الشجاعة، شجاعة أن يوجه تلك الحرية نحو حياته نفسها ويستثمرها فيها.
أو كما يقول سيوران: لولا فكرة الانتحار لقتلت نفسي منذ زمن طويل.
ما قصده سيوران من مجاز عبارته، إنه شعور التحرر من قيد الوجود ذاته. شعور عدم الإلزام بشيء.
لك السلطة على حياتك، نعم، فلم لا تستخدمها بجرأة في العيش. بذلك لن تصبح بحاجة للموت.
يمكنك قتل حياتك الحالية دون انتحار. يمكنك قتل تلك النسخة السابقة منك، مع ذاكرتك التي تؤلم رأسك، وصناعة واحدة جديدة. بلا تعاطف أو ألم أو ذاكرة.
الاكتئاب شبح مضلل، وحدته عمياء وذاكرته مظلمة. لذا كان الكثيرين منا يسقطون في الفخ. مرارا وتكرارا.
قد يمكنك متى شئت كتم صوته والتجرأ عليه. متى شئت، لأن مهما برر الانسان مخاوفه، يمكنه قتلها بلحظة أن يقرر ذلك. ليس ببساطة، بل بعناء بالطبع. ولكن اي عناء قد يستحق، عناء قتل انفسنا، ام عناء عيش الحياة بطريقتنا.
بنفس الحرية التي يفكر بها الانسان في انتحاره، قد نغير الكثير من حياتنا شخصيا، نتعلم أن نفكر بشجاعة في حياتنا التي تتشكل كما نريد.
فما يجعلني أهرب بشجاعة من عالم أنا فيه، قد يجعلني أواجه عالمي بشجاعة أكبر. وأسترد حقي في العيش فيه كما أريد.
برغم أن ما يجعلك تحيا بوجه مكشوف وقلب لا يبالي بشيء. بلا خوف من أي يكن. بلا عبودية مدى الحياة للألم والذاكرة، ولا اعتبار لشيء سوى ما تريد. ليس نفس ما يجعلك ترحل.
لكن تلك الفكرة وحدها تجعلنا مازلنا دائما على قيد الحياة. أن لدينا الخيار دائما.
يمكنك قتل حياتك الحالية دون انتحار.
هناك جرائم أفضل لارتكابها، كأن تقتل مخاوفك وأفكار الناس التي بلا قيمة عن اي شيء ومعتقدات الآخرين الجاهزة لك والأذى الذي تعرضت له والانطباعات التي لست بحاجة لانتظارها، بدلا عن قتل نفسك.