في عربة المواصلات كنت أنظر من النافذة وأستمع إلى أم كلثوم بالضرورة، وأفكر كم هو غريب حقًا سهولة الإدعاء والكتمان لامرأة ضئيلة القد والصوت مثلي، ما أسهل أن تحمل جريحًا ينزف من إصابة خطيرة هو قلبك وتتحرك به، بكل أريحية وروتينية مستطاعة دون هلع، أضع حزني بجانبي على الوسادة بعد أن يخلعه قلبي عنه كقميص شفاف متقن الصنع، أحاول أن ألمسه دون أن أفسد شيئًا، أربت عليه ويربت عليّ حتى ننام معًا، أحدنا بين ذراعيّ الآخر، ثم أحرره طليقًا في أحلامي، ليرمح فوق عيني المغمضتين ويرسم لي كل خساراتي ويعرضها بشغف على شاشة صافية، ولأن هذه هي طريقته في اللعب بحرية، حزني الطفل، لا أستاء من عبثه وأتركه ينعم بمرحه قليلًا، حتى أستيقظ، يبكي كالطفل الوديع الذي لا حيلة له، يرتجف خائفًا من الوحش الذي سيخرج لمواجهته معي بعد ساعات، لا يريد أن يحبس ثانية في الغرفة المظلمة التي أضعه بها يتأذى دون حيلة مني.. لا أملك سوى البكاء الصامت معه وأنا أسحبه إلى حضني، وأدخله غرفته، أنهض من سريري بسهولة، وأمشي في المنزل بسهولة، أضع حزني في الثلاجة رغم اعتراضه، لحمايته من العطب، أرتدي ملابسي، أتحدث إلى أهل المنزل، أجري إتصالات العمل، أرسم عيناي بخفة وأمشط شعري، أتفقد جدولي، وهاتفي، بسهولة بسهولة.. وأخرج إلى الطريق، إلى العالم الذي كان يرتجف منه طفلي، أحمله معي بعض الأيام وأحبسه في غرفته الصغيرة، وأتركه بعضها الآخر كما هو في سلامه، في الثلاجة، بمأمن عما يعبره يوميًا معي.. أقطع الطريق بوجه خالٍ من التعبير وحركة روتينية، أعود إلى أدائي اليومي بسهولة وخفة، أمارس عملي بسهولة أكبر، وأنفق يومًا كاملًا في الانشغال به دون عناء، أتحدث إلى الآخرين وأوزع حيويتي بعدالة، أبتسم من حين لآخر بنعومة، وأصنع مع نفسي النكات الفطرية من المهازل اليومية، أكتب وأخطط وأحدد وأرسم وأتناول طعامي وأقرأ وأتصفح وأمنح بسهولة، اتواصل مع البعض، وأجيب كل الاسئلة الروتينية بالرد الروتيني "كله تمام" بسهولة، أتجنب محبي الثرثرة حيث لا طاقة بالقلب تكفي لهذا الآن، وعليه أتجنب الحديث المطول إلى عقلي، أحسب معادلاتي اليومية وأطرح خسائري العادية، ألتقي بالطريق مرة أخرى، وأفكر، يمضي يومي بهيئته الكاملة الأنيقة دون خدش، بسهولة تامة، وأعود إلى المنزل في نهايته لأقوم بأشياء عديدة بسهولة، حتى أصير وحدي، لأحرر حزني من غرفته السخيفة، أو أخرجه من الثلاجة، ليندفع نحو حضني كقططي الصغيرة راميًا ثقل هشاشته في قلبي، وأظل أهدهده برفق طوال الليل، أخاف أن ألمسه بقوة أكبر فأؤذيه، فأمدده إلى جانبي، أربت عليه ويربت عليّ، حتى ننام سويًا.
وهكذا.. أربي حزني دون عناء وأُحسِن التربية.
كم هي سهلة دورة حياة حزني.. وكم هو صعب وقع اليوم وقسوته على حساسية الحزن.
لمست بلوزتي بأصابعي وشعرت باستكانته، احتضنت قلبي وفكرت كم يبدو الأمر سهلًا على هذا النحو.. ما أسهل أن تحمل جثة صغيرة في صدرك، وتؤدي يومك في هيئته الكاملة كل مرة.