يومًا ما كانت هناك وردتي المرحومة "سوليداد". أحضرتها صديقة إلى غرفتي مزهرة. كانت تلك المرة الأولى التي أراها فيها، مزهرة وطيبة. رغم حبي لها وعنايتي بها لا أعرف كيف ذبلت وماتت. - كانت هناك تلك المرحلة من حياتي أيضًا التي كنت فيها أحب النباتات عن بعد لكني لا أعرف كيف أشكل حبي لأرعى روحها، مثلما هناك الكثير ممن قد يحبوننا لكنهم لا يعرفون كيف يحبون فنتأذى معهم. ربما هكذا كبرت كفاية وفهمت - وكانت هناك شجرة "ديزي" صغيرة هدية من صديقة أخرى بميلادي لأنها زهرتي المفضلة الثانية بعد زهرة دوار الشمس، أسميناها "مارسيل". صمدت لأسابيع في المكتب، وفي النهاية انطفأت. مرة بدت لي "مارسيل" عطشى، فسكبت عليها نصف قنينة مياه مثلجة لم أجد سواها بعد بحث بالمكتب حينها، كانت كل ما وقع تحت يدي في لحظة الحنان تلك. ربما تجمدت جذورها على الأرجح بسبب حماقتي، لذلك مرضت. بكيت كثيرًا يوم ماتت. يأست بعدها من محاولة إثبات أني أفقه شيئًا في تربية النبات مثل أمي أو أني صالحة للرعاية، وصارت أغنية فرانسواز هاردي "صديقتي الوردة" تقع على قلبي مثل سكين. ماذا تقول الأغنية؟ تنقل المغنية حديثًا دار بينها وبين وردة. أخبرتها الوردة أننا أشياء قليلة، وأن قلوبنا عارية، وأننا سنصير غبارًا في المساء ولن نعود مجددًا.
لسنوات طويلة، وجدت تلك الأغنية عادية وبليدة، مثل كل الكنايات المكررة عن الورود الذابلة والأعمار الهاربة. ثم، في يوم من الأيام، فهمتها، هكذا ومن دون مقدمات، صرت أحسّ بها تحت جلدي. وأشربها كلما سمعتها.
"الأغاني تحكي كل الحقيقة"، هكذا كانت تقول ماتيلد في فيلم تروفو (المرأة في البيت المجاور). تجلس ماتيلد في فراشها داخل المصحّ النفسي، وعشيقها برنار على كرسي مجاور، يضع بطاريات في الراديو، كي تسمع المريضة الأخبار، وترفه عن نفسها. تخبره أنها لا تسمع الأخبار أبدًا، بل الأغاني فقط، لأن الأغاني تقول كل الحقيقة.. تشبهني في هذا الأمر.
الأغاني تحكي الحقيقة دائمًا، وكلما كانت الأغنية حمقاء، كانت حقيقية أكثر. لكنها ليست حمقاء، الأغاني.
ماذا تقول الأغاني؟ تقول: "لا تتركني"، "غيابك حطم حياتي"، "أنا بيت خالٍ من دونك"، "دعني أصِر ظل ظلك"، و "من دون حب نحن لا شيء".
يتطلب الأمر لحظات فارقة، غير مرئية، وغير مفهومة، لكي تكتسب الأغاني الحمقاء، معنى بعيدًا وفارقًا في روحك.
على عتبة السبعين، تجلس هاردي بشعرها الأبيض بجانب البيانو وتغني، رسالة شخصية أخرى، أعطتها عنوان "لماذا أنت؟" اصدرتها عام (2012). تقول: "أجهل إن كان ما أحبه فيك، هو شيئًا سوى أنت. أفكاري مشوّشة، وأنا منهكة من جموح غرابتك. لماذا أنت؟ وذاك الدوار الذي يتملكني فجأة، من أين يأتيني، أمني أم منك؟ لست بحاجة للحيلة معك، أعترف، هذا مذاق الجنون والحب.. وحتى إن كنت أنت صاحب الحيلة معي، سأمنحك البراءة دائمًا، لست بحاجة لتمزقني، كي أعود نادمة، مهما ابتعدنا نحن على مقربة دائمًا، ربما أشعر أني لا شيء من دونك. لا أقوى على الوقوف بشكل مستقيم. وربما لن أحل أبدًا معضلة رؤاي الضبابية عنك، وإن فشلت في حلها، فذلك ليس بالشأن المهم أصلًا. لأنك ستبقى للأبد، أدفأ أسراري.". كم من سنوات مرت بين الأغنيتين؟ أكثر من نصف عمر فرانسواز هاردي؟ عمرها كله؟ كيف نقضي عمرًا كاملًا في المربع ذاته، نحكي المعضلة ذاتها بكلمات مختلفة؟ والأغاني الحمقاء تلك؟ هل تخفف من حمل القلق والدوار والأعمار الذابلة، أم تزيده لأنها تعرّيه، ولأنها تقول الحقيقة، ولأن الكشف دومًا أثقل من أن يُحتمل؟ .. ما الفرق إن كبرنا أو بقينا صغارًا؟ ما الداعي لكل تلك الحيرة؟ ما الداعي للتركيز في الأشياء، إن كان الضباب هو هو، والأحزان هي هي، والحب هو هو، قبل الثلاثين وفي السبعين؟ نصعد التلة ذاتها، وننزلها، نغلي القهوة، ونسكبها.. نستمع إلى الأغنيات ذاتها، وتظل الأغاني حمقاء، لكنها صادقة.. وتحكي وحدها الحقيقة.
#'الأغنيات تقول الحقيقة